دمج الأطفال المصابين بالتوحد مع أقرانهم:عوائق و حلول

رؤية تربوية وإنسانية موسعة من أجل تعليم عادل في المغرب

دمج الأطفال المصابين بالتوحد مع أقرانهم: رؤية تربوية وإنسانية موسعة من أجل تعليم عادل في المغرب

يُعتبر دمج الأطفال المصابين بالتوحد ضمن الصفوف العادية خطوة حيوية وأساسية نحو تحقيق التربية العادلة، التي صارت مبدأً مشروعًا وهدفًا استراتيجيًا وطنيًا في المغرب. فالدمج لا يقتصر على مجرد السماح لهؤلاء الأطفال بالدخول إلى المدرسة، بل يتعدى ذلك إلى تصميم بيئة تعليمية شاملة تراعي الفروق الفردية، وتوفر وسائل مساعدة مثل الجداول البصرية، والزمن الهادئ، ودعم الأخصائيين النفسيين والتربويين في الفصل. كما يهدف إلى ضمان مشاركتهم الفعّالة عبر تعميم أساليب التعليم التعاوني والمشروعات الجماعية التي تشجع على التفاعل الإيجابي، وتلبية احتياجاتهم التعليمية والنفسية من خلال خطط تعليمية فردية (IEP) تُحدَّد وتُقيَّم دوريًا. كل ذلك يعزّز من فرص نجاحهم الأكاديمي وتطوير مهاراتهم الاجتماعية، ويقود إلى اندماجهم الحقيقي ضمن المجتمع المدرسي. وتستند هذه الخطوة إلى مبادئ فلسفية ونظرية راسخة، من مثل حق الطفل في التعلم ضمن بيئة تحترم خصوصياته، كما ذكرت الأمم المتحدة في اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، وتدعمه إحصائيات وأبحاث دولية تظهر أن دمج ذوي اضطراب طيف التوحد يرفع من مستوى التواصل الاجتماعي لديهم بنسبة تصل إلى 40% خلال العام الأول، ويُنمّي لدى أقرانهم حسّاً أعمق بالتعاطف والتفهّم، مما يسهم في بناء مجتمع أكثر تماسكًا وتسامحًا.

الأسس الفلسفية والنظرية لدمج الأطفال المصابين بالتوحد:أهمية الدمج التربوي من منظور فلسفي ونفسي

تتجلى أهمية الدمج التربوي في أساسيات عدة نظريات فلسفية ونفسية تربوية عميقة. فقد أكد الفيلسوف التربوي الأمريكي جون ديوي على أن المدرسة ليست مجرد مكان لتلقي المعرفة، بل بيئة تفاعلية تحاكي المجتمع، حيث يتعلم الطلاب من خلال التجربة والتفاعل مع الآخرين. لذا، يصبح الدمج ضرورة تعليمية واجتماعية، تعزز قدرة الطفل على التفاعل والتعاون ضمن إطار جماعي. ومن جانب آخر، يرى الفيلسوف جون لوك أن لكل إنسان حقوقًا طبيعية من بينها حق الطفل في الحصول على تعليم ملائم يحترم خصوصياته واحتياجاته الفردية. هذا المبدأ يبرر أهمية دمج الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة ضمن المنظومة التعليمية العادية، لضمان تمتعهم بحقهم في التعلم. على صعيد علم النفس، ساهم ليف فيغوتسكي بنظرية "المنطقة القريبة من النمو"، التي تؤكد على الدور الحيوي للدعم الاجتماعي والتوجيه التدريجي الذي يقدمه المعلمون والأقران للطفل. تدعم هذه النظرية مبدأ الدمج، حيث يُعد التفاعل مع الزملاء عنصرًا أساسيًا في تطوير المهارات المعرفية والاجتماعية للأطفال، خصوصًا لأولئك المصابين بالتوحد. كما تُبرز مقاربة لورانس كولبرغ في نمو الأخلاق أهمية التعليم في بيئة شاملة، حيث يساهم في ترسيخ قيم التسامح والاحترام وقبول الاختلاف، مما يخلق مجتمعًا مدرسيًا صحيًا ومتسامحًا.

أهمية الدمج: من النظرية إلى الواقع

تشير الدراسات الحديثة إلى أن دمج الأطفال المصابين بالتوحد لا يفيد هؤلاء الأطفال فقط، بل يعود بالنفع على المجتمع المدرسي بأكمله. ووفقًا لمنظمة الصحة العالمية (WHO) في تقريرها الأخير لعام 2023: يصاب حوالي 1 من كل 100 طفل باضطراب طيف التوحد، وهو رقم يتزايد بسبب تحسن تقنيات التشخيص. في الدول التي اعتمدت سياسات دمج فعالة، تحسن مستوى التواصل الاجتماعي للأطفال التوحديين بنسبة تصل إلى 40% بعد سنة واحدة من الدمج. كما أثبتت الدراسات أن الطلاب غير المصابين بالتوحد الذين يتعلمون في بيئات شاملة يظهرون زيادة بنسبة 25% في مهارات التعاطف والتفاهم مع الآخرين، مما يساعد في بناء مجتمع مدرسي متماسك. تشير هذه الإحصائيات إلى أن الدمج يعزز من مهارات التواصل والتفاعل الاجتماعي لدى الأطفال المصابين بالتوحد، ويقلل من شعورهم بالعزلة، بينما ينمي في نفس الوقت لدى أقرانهم قيم التسامح والاحترام.

التحديات التي تواجه الدمج في السياق المغربي

على الرغم من الفوائد الواضحة، يواجه الدمج في المغرب عدة تحديات:

تجارب دولية ناجحة للاستفادة منها

مكن للمغرب الاستفادة من تجارب دول أخرى نجحت في دمج الأطفال التوحديين بفعالية:

توصيات لتحقيق دمج ناجح

لتحقيق دمج ناجح وفعّال، لا بد من اعتماد مجموعة من الإجراءات:

خلاصة

إن دمج الأطفال المصابين بالتوحد في التعليم النظامي خطوة ضرورية نحو بناء منظومة تربوية شاملة وعادلة في المغرب. و نجاح هذا المسعى يتطلب إرادة سياسية قوية، استثمارًا كافيًا في الموارد البشرية والمادية، وبرامج تكوين مستمرة، إلى جانب تضافر جهود الأسرة والمدرسة والمجتمع. كما أن الاستفادة من النظريات التربوية والفلسفية، والدراسات العلمية والإحصائيات، يمكننا بناء بيئة تعليمية تحتضن التنوع وتعزز من فرص نجاح كل طفل، لتكون المدرسة مكانًا يفتح أبواب الأمل والإبداع لجميع أبنائنا.

صورة محمد سعدي

محمد سعدي

مطور ومؤلف تربوي يساعد الأساتذة على النجاح والتميز.